بواسطة : .
9:05 ص - 2025/10/19 - 281 views
بقلم: دلال القحطاني
يأتي اليوم العالمي للزهايمر هذا العام تحت شعار «لا تنساني»، ليذكّرنا بأن النسيان ليس دائمًا نعمة، بل قد يكون امتحانًا مؤلمًا حين يختطف منّا ملامح الأحبّة وأحاديثهم وأيامهم الجميلة.وصحتهم رويداً رويداً حتى يكونوا اشبه بالمعاق ذهنياً وجسدياً .
الزهايمر ليس فقط مرضًا يصيب الذاكرة، بل حالة إنسانية تُعيد تشكيل معنى الحضور والغياب، والحب والصبر، والعطاء بلا مقابل.
تعود بي الذاكرة في بدايات إصابة والدتي — شفاها الله — به ،كنا نتخبط بين التفسيرات، والعائلة ترى الأعراض تزداد تدريجيًا، دون معرفة دقيقة أو تشخيص واضح.
حين كان تكرار السؤال ذاته، و تخلط بين الأسماء، وتُعيد الحكاية ذاتها كل مساء حيناً اخر.كنت أظنها تمزح، أو من اثر ضغوطات الحياة أو قد يكون بسبب نقص فيتامين او فقر دم او ..او .. ثم أدركت أن الأمر أكبر من مجرد نسيان عابر.
مازالت استعيد ذكرى تمكًن المرض منها كانت تنظر إليّ بعينيها الدافئتين كأنها تراني للمرة الأولى في كل مرة، فكنت أبتسم لها بنفس الحب وكأنها تذكرني جيدًا.
في المراحل الأولى تكرّر الأسئلة والقصص ذاتها، وتخلط بين الأسماء والوجوه، لكنها رغم كل ذلك، ما زالت تحتفظ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشبهها، وكأنها جذور ذاكرتها التي أبت أن تُقتلع.
من أجمل ما بقي لديها هو اسمها، وعبارةٌ كانت تردّدها منذ صغرها: “لبّيه”. تردّ بها كلما ناديناها بأسمها اول ما تعلت مسامعها ،ومازالت إلى الآن في مراحلها المتأخرة، متشبثه بها بنفس العذوبة والحنان. سبحان الله، من تعوّد على الكلام الطيب في صغره، لا يفقده حتى في ضعفه، ومن شبّ على اللين والحب، يبقى ردّه جميلاً مهما غاب عنه الوعي.
تعلمتُ حينها أن الزهايمر لا يسلب الذاكرة فقط، بل يختبر قدرتنا على الصبر، ويفتح أمامنا أبوابًا جديدة من الرحمة.
في بدايات هذا المرض، لم يكن الوعي به كما هو اليوم. فالبعض يظنه حالة نفسية، أو عينًا، أو سحرًا او مساً من الجن — كما كان يُقال في ذلك الوقت ومع مرور الأيام أدركنا أن الزهايمر ليس عارضًا نفسيًا، بل مرض يحتاج وعيًا واحتواءً وعلمًا وصبرًا.
فطريقة التعامل مع المريض ليست تفصيلًا بسيطًا، بل هي مفتاح لراحة المريض واستقراره النفسي، النبرة الهادئة، اللمسة الحانية، التكرار بصبر، والابتسامة الصادقة … كلها علاج يوازي الدواء. وتعلمت من رحلتها أن الوعي هو أول أبواب الرحمة.
الكشف المبكر له دور جوهري في تخفيف مضاعفات المرض وتأخير تطوره.،وتسارعه، والمتابعة الطبية، وطريقة التعامل الصحيحة مع المريض تصنع فرقًا حقيقيًا في جودة الحياة.فالمريض لا يحتاج إلى الشفقة، بل إلى طمأنينة في الصوت وحنان في النظرة، وصبرٍ لا ينفد.
الوعي يُنقذ، والتثقيف يُعين الأسر على مواجهة التحديات بثبات، خصوصًا في مراحله الأولى التي قد لا يلاحظها الكثيرون.
ولعل من أجمل ما يقدَّم في هذا المجال هو ما تقوم به الجمعية السعودية لمرضى الزهايمر من جهود رائدة في التوعية والدعم والإرشاد، التي قدّمت وما زالت تقدّم برامج توعوية وإنسانية عظيمة، تُساند الأسر، وتدرّب مقدمي الرعاية، وتُذكّر الجميع بأن الزهايمر ليس مرض نسيان فقط، بل مرض ذاكرةٍ تبحث عن من يتذكرها. عبر برامج نوعية تصل للأسر والمقدّمين على الرعاية، وتُرسّخ ثقافة التعامل الإنساني والعلمي مع المرض.
حملتهم هذا العام، «لا تنساني»، ليست مجرد شعار، بل نداء إنساني موجّه إلى كل ضميرٍ حيّ: لا تنسوا من نسونا قسرًا، فهم ما زالوا بيننا يحتاجون دفء القلوب، قبل رعاية العقول.
حيث تشير آخر البيانات الصادرة من وزارة الصحة السعودية في اليوم العالمي للزهايمر عام 2025، يُقدّر عدد المصابين بمرض الزهايمر في المملكة حوالي 130 ألف شخص.هذا الرقم الكبير يعكس مدى ازدياد المرض وانتشاره، وهذا يحتاج الى وعي وعلاج مبكر وتغير نمط الحياة الخاطئ الى نمط صحيح لتفادي الاصابة به.
الزهايمر اختبارٌ للحب الحقيقي، وصبرٌ طويل لا يُقاس بالوقت بل بالرحمة.
وحين نُدرك أن كل لحظة قربٍ من مريض الزهايمر هي عبادة في ثوب الإنسانية، سنفهم أن الذاكرة قد تضعف، لكن الحب لا ينسى أبدًا. الزهايمر ليس نهاية الحكاية، بل فصلٌ مختلف من الحب والرعاية والوفاء.
وحين نُدرك أن كل لحظة قربٍ من مريض الزهايمر هي استثمار في إنسانيتنا، سنفهم أن الذاكرة قد تخون، لكن المشاعر لا تخون ولا تنسى أبدًا.
دلاليات 💜:
الزهايمر قد يطفئ الذاكرة، لكنه لا يطفئ الحب.رغم صمت الذاكرة.
تذكّروا من نسوا… وامنحوا الرعاية بقدر ما منحونا الحياة.
اللهم اشفِ أمي وكل مريض، وعوضهم الآجر بلا حساب،و أرزق كل مقدّم رعاية صبرًا بحجم الحب الذي في قلبه واجزهم خير الجزاء.
بقلم: دلال القحطاني
الرئيس التنفيذي لقطاع غير ربحي
عضو الجمعية العمومية في الجمعية السعودية لمرضى الزهايمر
مستشارة مهنية في منصة خبراء المسؤولية المجتمعية في الدول العربية
كاتبة مهتمة بالاستدامة البيئية والقطاع غير الربحي والمسؤولية الاجتماعية
أعجبنى
(1)لم يعجبنى
(0)